ورد الحبيب الجفري ص 104-205 قصة العابد واعترض عليه المعترض بأمورٍ وسأقوم بعرضها وردّها :
1* قال المعترض : يذكر لك رقم الآية ويتغافل عن ذكر مصدر هذه القصة الخرافية المنافية للدين.
أقول : القصة من الإسرائيليات وتقدم في الردود السابقة بيان حكمها وروايتها فلتراجع .
أما اعتبارها خرافية ومنافية للدِّين فقول مردود على قائله ولم أجد فيها ما يتنافى مع أصلٍ من أصول الدين المقررة عند أهل السنة والجماعة ، إلا أن يكون مراد المعترض أنها منافية للدين بحسب العقيدة الوهابية وذلك لأنه لا يعتبر ما عليه الأشعرية والماتريدية وهم أهل السنة والجماعة ديناً وأنهم أعني أهل السنة في نظره مارقون عن الدين وخارجون عنه .
ثم قال المعترض : أمّا أن يرويها من ينصّب نفسه مدافعاً عن الإسلام ...الخ
أقول : كأن المعترض من المعتزلة القائلين بأنّ الإنسان يخلق أفعاله الاختيارية فنسب إلى الحبيب الجفري أنه نصَّب نفسه مدافعاً عن الإسلام ، ونسي أنّ الله تعالى أقامه في ذلك لأن الله تعالى هو الخالق الموفق المقدر لا شريك له وإذا كان الله تعالى قد اختار بعض الأمم السابقة واصطفى أفراداً منهم على العالمين كما قال تعالى : ﴿ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾{الدخان:32} وقال تعالى : ﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ﴾{الأنبياء:73} فهل يضيّع سبحانه هذه الأمة المحمدية التي هي أفضل الأمم ؟ وهل لا يختار ويصطفي علماء هذه الأمة ومرشديها ويجعل منهم أئمة خصوصاً من آل بيت النبوة كالحبيب الجفري وغيره من السادة الأشراف الذين هم على عقيدة أهل السنة والجماعة ولم يغيروا ولم يبدلوا كما وقع لغيرهم .
وإليك بيان موافقتها لأصول العقيدة الصحيحة :
أ- قال المعترض : جبريل – عليه الصلاة والسلام – يطالع في اللوح المحفوظ !
وقول – عليه الصلاة والسلام – زيادة من عندي على كلام المعترض لأنه لم يسلم عليه في الأصل وهذا من أجل الأمانة العلمية في النقل .
أقول : هل يستحيل عقلاً أو شرعاً اطّلاع جبريل عليه الصلاة والسلام على اللوح المحفوظ ؟
أما عند المؤلف فهو مستحيل عقلاً وشرعاً وأنا أطالبه بأدلة الاستحالة العقلية أو الشرعية إن كان يقول بها ؟
ومن قال ذلك من العلماء المعتبرين ؟ أم هو رأيه الخاص في المسألة ؟ فإن كان رأياً له خاصاً فلا حاجة لنا به ونضرب به عُرض الحائط ، وإن كان معتمداً على دليل أو قول لعالم معتبر فليأتِ به عملاً بقوله تعالى : ﴿ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾{البقرة:111} .
وأما عند أهل السنة والجماعة فلا يستحيل اطّلاع سيدنا جبريل عليه الصلاة والسلام على اللوح المحفوظ لا شرعاً ولا عقلاً وذلك أن جبريل عليه السلام اطّلع على القرآن الكريم وهو في اللوح ونزل به منجماً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك الحكم في بقية الكتب والصحف التي نزل بها على النبيين والمرسلين عليهم الصلاة والسلام ، ولا بدَّ أن أبيّن ما هو اللوح المحفوظ الذي يستحيل عند المعترض اطّلاع جبريل عليه الصلاة والسلام عليه فأقول :
1ً - روى البغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفاً : ﴿ اللوح لوح من درة بيضاء طوله ما بين السماء والأرض وعرضه ما بين المشرق والمغرب وحافتاه الدر والياقوت ودفتاه ياقوتة حمراء وقلمه نور وكلامه معقود بالعرش وأصله في حِجْر ملك ﴾{معالم التنزيل 8/389} .
2ً - وروى الطبراني عن ابن عباس مرفوعاً وموقوفاً والوقف أشبه : ﴿ إنّ الله خلق لوحاً محفوظاً من درة بيضاء صفحاتها من ياقوتة حمراء قلمه نور وكتابه نور ، لله فيه كل يوم ستون وثلاثمائة لحظة يخلق ويرزق ويميت ويحيي ويعز ويذل ويفعل ما يشاء ﴾{المعجم الكبير 12/72 ، 10/316 راجع تفسير ابن كثير 8/373 سورة البروج} .
ونقل المفسرون آثاراً وأحاديث بعضها صحيح وبعضها ضعيف عند قوله تعالى في سورة البروج : ﴿ بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ﴾{البروج:21/22} فلتراجع ، وذكر شُرَّاح جوهرة التوحيد تفاصيل تتعلق باللوح عند قول الناظم :
~ والكاتبون اللوح كل حكم ...... فليراجعها من أحب .
أقول : النصوص الصحيحة الصريحة تدل على أنّ اللوح مخلوق وأنّ الله تعالى أمر القلم أن يكتب فيه المقادير وانعقد الإجماع على ذلك ، وأنّ الملائكة الموكلين بتدبير أمر العالم والذين قال الله تعالى فيهم : ﴿ فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾{النازعات:5} تطّلع على اللوح المحفوظ وما كتب فيه من المقادير بإذن الله وتنزل بها من السماء إلى الأرض .
3ً - وقد روى ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً : ﴿ قال النبي صلى الله عليه وسلم قلت : من هذا يا جبريل ؟ قال : هذا إسرافيل - إلى قوله – بين يديه اللوح المحفوظ فإذا أذن الله في شيء من السماء أو في الأرض ارتفع ذلك اللوح يضرب جبينه فينظر فيه فإن كان من عملي أمرني به وإن كان من عمل ميكائيل أمره بعمله وإن كان من عمل ملك الموت أمره به ﴾{الحديث في شعب الإيمان للبيهقي:151} .
4ً - وعن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفاً قال : ﴿ أول ما خلق الله القلم - وفيه - فقيل له : اجر في اللوح المحفوظ قال يا رب بماذا ؟ قال بما يكون إلى يوم القيامة ، فلمّا خلق الله الخلق وكّل بالخلق حفظة يحفظون عليهم أعمالهم فإذا قامت القيامة عرضت عليهم أعمالهم وقيل : ﴿ هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾{الجاثية:29}عرض بالكتابين فكانا سواء قال ابن عباس ألستم عرباً ؟ هل تكون النسخة إلا من كتاب ﴾{رواه الحاكم في المستدرك وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه:3651} .
وذكر ابن كثير رحمه الله في تفسيره قال : قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره : تكتب الملائكة أعمال العباد ثم تصعد بها إلى السماء فيقابلون الملائكة الذين في ديوان الأعمال على ما بأيديهم مما قد أُبرز لهم من اللوح المحفوظ في كل ليلة قدر مما كتبه الله في القِدم على العباد قبل أن يخلقهم فلا يزيد حرفاً ولا ينقص حرفاً ثم قرأ : ﴿ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾{الجاثية:29} .
أقول : ما كان موقوفاً من هذه الروايات وأمثالها لا يقال مثله من قبل الرأي فيكون له حكم المرفوع .
والذي يهمنا في علم العقيدة الإيمان بوجود اللوح وأنه مخلوق وأن الملائكة المأمورين بتدبير أمر العالم ينظرون فيه للنزول بالمقادير ، ومن ذلك نزول الملك الموكل بالأرحام إذا أتم الجنين في بطن أمه أربعة أشهر كما ورد في الحديث ﴿ ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ﴾{صحيح مسلم برقم:4781} فهذا الأمر من الله تعالى على قول أو من الملك المطلع على تلك المقادير في اللوح المحفوظ بأمر الله تعالى وبإذنه ، وإذا كتب الإنسان شقياً أو سعيداً وهو في بطن أمه وعلم الملك الموكل ذلك فهل يمتنع اطلاع رئيس الملائكة عليه سواء كان في اللوح المحفوظ العلوي أو عند الملك الموكل بالعبد . وبعد هذا يتبين لنا أن اللوح المحفوظ يصح الاطلاع عليه شرعاً ، وأما عقلاً فاللوح مخلوق ويصح لكل مخلوق أن يرى ويطلع عليه ، وثبت اطلاع ملائكة التدبير وسيدنا جبريل عليه السلام رئيسهم وسيدهم فإذا صح اطلاع عامة الملائكة على اللوح صح من باب أولى اطلاع رؤسائهم عليه .
ولنعلم أن رؤساء الملائكة كجبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم السلام أفضل من اللوح والقلم فلا يمتنع اطلاع الفاضل على المفضول .
فهل يعتقد المعترض أن اللوح جزء من الله تعالى أو أن صفة العلم القائمة بذاته تعالى انفكت عنه وقامت في اللوح وحلت فيه فالله يعلم بعلم قام في غيره كما عليه بعض المبتدعة المخالفين لأهل السنة المجوّزين قيام صفاته تعالى بغير ذاته ؟ ولذلك امتنع عنده اطلاع جبريل عليه السلام عليه .
ب- قال المعترض : والله يأذن له أن يخبر الرجل الصالح بما في اللوح ؟
أقول : ترك المعترض جملة في القصة وهي قوله ـ بعد أن تعجب من هذا الأمر ـ ورُبّ معترض آخر يقول : كيف يتعجب الملك من هذا ؟ أقول : ليس تعجب اعتراض أو إنكار وإنما هو تعجب استفهام لخفاء الحكمة الإلهية عنه ، ومثل ذلك ما حكاه الله تعالى عنهم عند إعلامهم بإرادته تعالى أن يخلق آدم ويجعله خليفة في الأرض قال تعالى ﴿ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ {البقرة:30} فلم يكن اعتراضاً منهم ولا إنكاراً ، وإنما خفيت عليهم الحكمة الإلهية في ذلك فتعجبوا من ذلك تعجباً يعني الاستفهام والسؤال عن الحكمة في هذا الخلق .
ثم إن الملك الكريم جبريل عليه السلام استأذن الله تعالى في أن يخبر ذلك العابد بما كتب عليه في اللوح المحفوظ وفي بطن أمه من كونه شقياً لعله يظهر له شيء من علم الله تعالى وحكمته فيما خفيت عليه حكمته في المقادير المتعلقة بهذا الرجل ، فأذن الله تعالى له .
ج : ـ في القصة ـ فنزل وقال يا فلان إني جبريل فردّ عليه السلام .
أقول : تمثل الملك الكريم بصورة بشرية وظهوره أمام جماعة أو فرد وكلامه ليس بمستحيل عقلاً ولا شرعاً ، فالله تعالى يخبرنا بقوله ﴿ فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا﴾{مريم:17/19} فالسيدة مريم رضي الله عنها تمثل لها الملك الكريم بصورة بشرية وجرت بينهما محادثة ومكالمة .
وفي الحديث الصحيح أن الله تعالى أرسل ملكاً إلى أعمى وأقرع وأبرص فتمثل لهم بشراً وجرى بينه وبينهم محادثة ومكالمة ثم جاءهم على صورهم التي كانوا عليها .
وفي الحديث الصحيح أن جبريل عليه السلام كان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتمثل له في بعض الأحيان بشراً يكلمه ورآه بعض الصحابة أفراداً وجماعات .
د : في القصة : قال جبريل عليه السلام : وجدت اسمك في اللوح المحفوظ فلان بن فلان شقي .
أقول : إخبار جبريل عليه السلام بأنه شقي على جهة الابتلاء والاختبار لتظهر له حكمة الله تعالى في إجراء الطاعة عليه مع ما كتب له على وفق إرادته تعالى وهل الإرادة والأمر هنا منفكان كما يكونان في غيره متوافقان ؟ فالله تعالى يريد ويأمر ، ولا يريد ولا يأمر ، ويريد ولا يأمر ، ويأمر ولا يريد .
فبين الأمر والإرادة عموم وخصوص من وجه وهو أن يجتمعا في مادة وينفرد كل منهما في مادة أخرى يجتمعان في إيمان المؤمن وينفرد الأمر دون الإرادة في إيمان الكافرين ، وتنفرد الإرادة دون الأمر في كفرهم ، وهذا عند أهل السنة والجماعة خلافاً للمبتدعة المعتزلة ، فلا يمتنع أن يكون الملك طلب من الله تعالى اطلاعه على حكمه في المقادير المتعلقة بذلك العبد وفي هذا بيان أن الملائكة لا تعلم الغيب الذي هو علم الله وحكمته وإن كانت تطلع على المقادير ، وإذا ظهرت لها الحكمة ازدادت علماً بالله تعالى إلى علمها الضروري وقد قص الله تعالى قصة عبده خضِر الذي أطلعه الله تعالى على حكمه في خرق السفينة وقتل الغلام وبناء الجدار وخفي ذلك كله عن نبي رسول هو سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام حتى أطلعه على تلك الحكم سيدنا الخضِر فازداد علماً إلى علمه ، فلا يمتنع مثل ذلك في حق جبريل عليه السلام .
هـ : في القصة : فأحببت أن أخبرك ما دمت شقياً ستذهب إلى النار تمتع قليلاً بالدنيا بدل أن تضييع حياتك .
أقول : أخبره بما كُتب عليه بحسب الظاهر ابتلاءً واختباراً ، ومثل من هذا حاله التمتع بالدنيا وليس القيام بالعبادة ، ومثل ذلك قوله تعالى فيما حكاه عن سيدنا صالح عليه السلام بعد أن حقّت الشقاوة على قومه بعقر الناقة ﴿ فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾{هود:65} ، وقوله تعالى للكافرين : ﴿ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ﴾ {إبراهيم:30} وقوله : ﴿ لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُون َ﴾{النحل:55} وقوله : ﴿ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ﴾{الزمر:8} وقوله : ﴿ وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ ﴾{الذاريات:43} وقوله : ﴿ كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ﴾{المرسلات:46} .
فإذا جاز مثل هذا الخطاب من الله تعالى ورسله عليهم السلام لمن حقت عليهم الشقوة بالتمتع فلم لا يجوز أن يأمر جبريل عليه السلام الرجل بالتمتع في حياته وقد تبين له أنه شقي ، وقد أخبرنا الله تعالى أنه أنزل الملكين هاروت وماروت يعلمان الناس السحر على جهة الابتلاء والاختبار ﴿ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾{البقرة:102} .
ومن وجه آخر : قال علماء البلاغة بأن صيغ الأمر قد تخرج عن معناها الأصلي الذي هو طلب الفعل على وجه التكليف والإلزام إلى معانٍ أخرى تستفاد من سياق الكلام ومنها التهديد كما في النصوص القرآنية الآمرة بالتمتع .
ويتبين من هذا أن الملك لم يأمره على وجه التكليف والإلزام وإنما خرج الأمر عن حقيقته هنا إلى تمتع الإباحة ، وذلك أن الرجل كان عابداً لله تعالى في صومعة ومجتهداً في ليله ونهاره وهذه هي الرهبانية التي ابتدعها هؤلاء في دينهم كما قال تعالى : ﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا ﴾{الحديد:27} وكان من جملة رهبانيتهم تحريم المباح لأنهم كما قص الله علينا ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّه ِ﴾{التوبة:31} وقد ثبت في تفسير ذلك أنهم أحلوا لهم ما حرم الله وحرموا عليهم ما أحل ، فكأن جبريل عليه السلام نزل ينهاه عن هذه الشدة والتنطع والغلو المبتدع ويأمره بالتمتع في حياته بالشهوات المباحة التي حرمها على نفسه ، وهذا معنى قوله ـ تمتع قليلاً بالدنيا بدل أن تضيع حياتك ـ وهذا هو منهج الاعتدال الذي جاءت به الشرائع كلها قال تعالى حكاية ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾{القصص:77} فمتبع الشرائع لا يضيع آخرته من أجل دنياه ولا دنياه من أجل آخرته .
و: في القصة : أن العابد حمد الله واسترجع وحوقل وعاد إلى عبادته لم ينقص مما سبق شيئاً فتعجب جبريل عليه السلام أكثر الخ .
أقول : تعجب جبريل عليه السلام أكثر لأنه لا يعلم غيب السرائر ومن ذلك وجود عبد ٍ يعبد الله لله لا طمعاً في جنته ولا خوفاً من ناره ، وهذا المعنى الذي ساق الحبيب الجفري القصة من أجل بيانه وذلك أن العباد على ثلاثة أصناف :
1- قوم يعبدون الله لله لا طمعاً في الجنة ولا خوفاً من النار بمعنى أنهم يعبدون الله لأنه رب يستحق العبادة وأولئك هم المخلِصون المخلَصون .
يسألون الله الجنة لأنها دار مجاورة الله ومشاهدته ، قال قائلهم :
~ ليس قصدي من الجنان نعيماً غير أني أريدها لأراكا
ويستعيذون بالله تعالى من النار لأنها دار الحجاب عن الله ﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾{المطففين:15 المطففين} أولئك القوم تخلصوا من علل الأعمال فلا يعملون لعلةٍ من العلل .
والرغبة رغبتان : رغبة في الله ورغبة فيما عنده ، فإذا رغب غيرهم فيما عنده من الثواب هم يرغبون في المشاهدة والاقتراب .
والرهبة رهبتان : رهبة من العذاب ورهبة من الحجاب ، فإذا رهب غيرهم من العذاب يرهبون هم من الحجاب .
2- قوم يعبدون الله طمعاً في الجنة وما فيها من ألوان النعيم ، وهذه عند أهل المقام الأول علة قادحة في الإخلاص لأن معنى ذلك لو لم يخلق الله الجنة وما فيها لما عبدوه ، وكيف لا يعبد ولو لم يخلق الجنة ؟ أليس رباً يستحق العبادة ؟ بلى .
3- قوم يعبدون الله خوفاً من النار وما فيها من ألوان العذاب ، وهذه علة قادحة في الإخلاص أيضاً لأن معنى ذلك لو لم يخلق النار لما عبدوه ، وكيف لا يعبد وهو رب يستحق العبادة ؟
فلما سأل جبريل عليه السلام العبد عن سبب استمراره في العبادة مع إعلامه أنه شقي بين له أنه يعبد الله لأنه رب يستحق العبادة ، وأنه عبد مملوك لسيده يفعل فيه ما يشاء ويتصرف فيه كيف يريد مفوضاً الأمر إليه ومستسلماً لقضائه ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُون َ﴾ {الأنبياء:23} وأنه لا يوجب على الله تعالى ثواباً على عبادته ولا يعبده لعلة .
فلما تبين لجبريل عليه السلام إخلاص هذا العبد وهو سر من أسرار الله تعالى لا يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل ، فظهر غيبه بكمال العبودية والافتقار والرضا والتسليم والتفويض صعد إلى السماء فوجد أن هذا العبد محي من ديوان الأشقياء وكتب في ديوان السعداء .
وهنا مسالة لابد من أن أعرض لها وهي معنى الشقاوة والسعادة ؟
فأقول : أهل السنة والجماعة في هذه المسالة على مذهبين :
1*: ذهب الأشاعرة إلى أن السعادة والشقاوة ليستا باعتبار الوصف القائم بالعبد في الحال من الإيمان في الأول والكفر في الثاني بل باعتبار ما سبق أزلاً في علمه تعالى ، فالخاتمة على وفق السابقة فالسعادة هي الموت على الإيمان باعتبار يعلق علم الله أزلاً بذلك والشقاوة هي الموت على الكفر بذلك الاعتبار
ولا يصح تحول كل واحد من السعيد والشقي عما سبق أزلاً في علمه تعالى فالسعيد لا ينقلب شقياً والشقي لا ينقلب سعيداً إلا لزم انقلاب العلم جهلاً وهو بديهي الاستحالة فالسعادة والشقاوة مقدرتان في الأزل لا يتغيران ولا يتبدلان .
فإن ختم له بالإيمان دل على أنه في الأزل كان من السعداء وإن تقدمه كفر ، وإن ختم له بالكفر دل على أنه في الأزل كان من الأشقياء وإن تقدمه إيمان ، ويدل لذلك حديث الصحيحين ﴿ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا﴾{أخرجه مسلم برقم:4781} .
2*: ذهب الماتردية إلى أن السعادة هي الإيمان في الحال والشقاوة هي الكفر كذلك فالسعيد هو المؤمن في الحال وإذا مات على الكفر فقد انقلب شقياً بعد أن كان سعيداً ، والشقي هو الكافر في الحال وإذا مات على الإيمان فقد انقلب سعيداً بعد أن كان شقياً .
وفي الحقيقة الخلاف بينهما لفظي لأن الخاتمة لا تكون إلا على وفق المسابقة التي هي علمه تعالى الذي لا يتبدل ولا يتغير .
أقول : في قوله تعالى : ﴿ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾{الرعد:39} بيان أن المقادير منها ما يمحوه الله تعالى ومنها ما يثبته وهذا الذي يظهر للملائكة المكرمين عليهم السلام في وجه اللوح الذي من قبلهم وهو الذي يقبل المحو والإثبات .
والوجه الآخر فيه بيان المقادير على ما هي عليه في علمه تعالى والتي لا تقبل التغيير ولا التبديل فإذاً برز لجبريل عليه السلام في وجه المحو والإثبات أن الرجل شقي ثم محي وكتب سعيداً وهذا لا يخالف العقيدة لأن ما برز آخراً هو ما سبق له في علمه تعالى الذي لا يتغير وقد قال الإمام الشوكاني رحمه الله في تفسيره : ظاهر النظم القرآني العموم في كل شيء مما في الكتاب فيمحو ما يشاء محوه من شقاوة أو سعادة أو رزق أو عمر أو خير أو شر ويبدل هذا بهذا ويجعل هذا مكان هذا قال تعالى : ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُون ﴾{الأنبياء:23} وإلى هذا ذهب عمر بن الخطاب وعبد الله ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم وغيرهم ، وقيل الآية خاصة بالسعادة والشقاوة فالمراد من الآية أنه يمحو ما يشاء مما في اللوح المحفوظ ويثبت ما يشاء مما فيه ، وهذا لا ينافي ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من قوله " جف القلم " وذلك لأن المحو والإثبات من جملة ما قضاه الله سبحانه ، وقيل : إن أم الكتاب هو علم الله تعالى بما خلق وما هو خالق .
ثم قال : أخرج ابن جرير وابن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما ﴿ هما كتابان يمحو الله ما يشاء من أحدهما﴿ ويثبت ، وعنده أم الكتاب ﴾ ﴾{أخرجه في المستدرك على الصحيحين للحاكم برقم:3289} وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال وهو يطوف بالبيت ﴿ اللهم إن كتبت علي شقوة أو ذنباً فامحه فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب فاجعله سعادة ومغفرة ﴾ .
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير والطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه نحوه .
أقول : فتبين بهذا جواز محو شقاوة العبد من وجه اللوح القابل للمحو والإثبات وكتبه سعيداً على وفق ما سبق له في علم الله تعالى .
وبهذا يظهر أن القصة ليس فيها نكارة ولا غرابة لأنها لا تعارض قواعد العقائد ولا تخالف شيئاً منها ، وبالتالي يكون قول المعترض : ـ أتدري يا جفري ـ انظر إلى أدبه مع حسيب نسيب ثابت النسب بالوجه الصحيح خلافاً له ـ يناديه باسمه المجرد ـ على من تتقول ؟ إنك تتقول على رب العلمين ، مردوداً وباطلاً لأن الحبيب الجفري لم يأتِ بهذه القصة من نسج خياله وإنما هو ناقل لها من كتب الرقائق ، ثم اتهامه من قبل المعترض بالتقول على الله يعني أن الله أطلعه على نيته وقصده وهو غيب فشارك فيه المعترض رب العالمين سبحانه فادعى أنه يتقول على الله ، أليس التحكم بنوايا الآخرين ومقاصدهم تقولاً على الله وافتراءً عليه وادعاءً لعلم الغيب معه ؟ سبحانك يا رب هذا بهتان عظيم .
ز ـ ثم قال المعترض : وتجعل الخرافة المنافية للدين دنياً ! وهذا تزوير للشريعة وتحريف لها .
أقول : تبين لنا من خلال التحليل العلمي للقصة أنها موافقة لقواعد الدين وأصوله ولم تتناف مع شيء منها ، وبالتالي لا تكون تزويراً للشريعة ولا تحريفاً لها .
ح – ثم قال المعترض : إذا كان التقول على الله عز وجل أمراً سائغاً مغتفراً الخ .
أقول : تقدم بطلان هذا الكلام وبيان أن تحميل الكلام ما لا يصح والتحكم بنوايا الناس ومقاصدهم الغيبية هو التقول على الله تعالى لأنه ادعاء مشاركته بعلم غيب السرائر التي انفرد بها سبحانه وتعالى .
ط – ثم قال المعترض : ولقد كان الأولى بالجفري ـ إلى قوله ـ وإلى الاستغفار من بعض الطاعات كما يقول الخ .
أقول : الاستغفار من بعض الطاعات بل كلها هو حقيقة من حقائق التوحيد والعبودية الصادقة وبيان ذلك :
1* النبي صلى الله عليه وسلم كان يستغفر الله دبر كل صلاة ثلاثاً ، والصلاة طاعة وليست معصية وإذا جاز الاستغفار دبر الصلاة جاز الاستغفار دبر كل طاعة ومعها .
2* من نسب الطاعة إلى حوله وقوته وأن له تأثيراً في فعلها واستقلالية فهو مشرك وعليه أن يصحح عقيدته وإيمانه بالله تعالى وأن يتحقق بقوله ﴿ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ {الآية 5 الفاتحة } فيشهد أن عبادته بعون الله وبحوله تعالى وقوته وبإمداده وتوفيقه وبفضله أجراها عليه .
3* من أوجب على الله تعالى من خلال ما تفضل الله به عليه من ألوان الطاعات أوجب عليه ثواباً أو قبولاً فهو معتزلي وعليه أن يستغفر الله تعالى ويتوب إليه من الإيجاب أو الوجوب عليه .
أقول : والمعترض بعيد عن فهم هذه المعاني التي يدعو إليها العلماء الربانيون كالحبيب الجفري وما سبب ذلك إلا أنه لم يتعلم عقيدة أهل السنة والجماعة الصحيحة ولم يسلك طريقاً من طرق التزكية الروحية التي تخلصه من علل الأعمال وآثارها .
وكل ما أقوم به من وجوه التأويل لكلام الحبيب الجفري عملاً بما أورده المعترض في مقدمة كتابه من قول سيدنا عمر رضي الله عنه / لا تظن بكلمةٍ خرجت من أخيك المسلم سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً / وليته ومشايخه أوجدوا لها في الخير محملاً وأغلقوا أبواب الأحقاد والفتن عن عوام المسلمين وعلماءهم .
ي- ثم قال المعترض : كان الأولى به أن يتحاشى السقوط في الإثم العظيم المتوعَّد عليه بالنار ثم أورد الأحاديث النبوية الشريفة .
أقول : ليس في إيراد القصة أن الحبيب نسبها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يدخل في وعيد تلك الأحاديث ، والمعترض قال في أدل كلامه : يتغافل عن ذكر مصدر هذه القصة الخرافية المنافية للدين ، هكذا في زعمه ووهمه .
ففي أول الكلام يجعلها قصة خرافية ثم في آخر كلامه يتوعد الحبيب الجفري بأحاديث العذاب لأنه كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في زعمه ووهمه ، والحبيب لم يرو القصة على أنها حديث نبوي فأين الكذب في كلامه ؟
منقول للافاده